نزار عبد الستار... قلادة الملكة (شمشو) في بيتي

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
19/02/2012 06:00 AM
GMT



"أنا لا أستطيع الربط بين وجود الأمريكان في بيتي وبين ما يحدث في الخارج... إنني أشعر بالذل لأن الأمريكان في بيتي وهذا يجعلني أتعاطف كثيراً مع الوطن في حظه العاثر."

هذه الحيرة، وهذا الشعور المرّ نتلمسه في أماكن عديدة داخل الفضاء الواسع لرواية نزار عبد الستار "الأمريكان في بيتي" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011)؛ رواية تحتل أهمية خاصة بين الروايات العراقية التي صدرت بعد الاحتلال، كونها تتناول ظروف الاحتلال لمدينة الموصل، ثالث أكبر مدن العراق بعد بغداد والبصرة.

قد يظن القارئ، ابتداءً، أن بطل الرواية التي بين يديه، ما هو إلا إرهابي ينتمي إلى أحد التنظيمات الكثيرة، والمختلفة في كل شيء، إلا في إراقة الدمع العراقي: "نظفت جيوبي من بطاقات التعريف الكاذبة والهويات المزورة التي أستخدمها لخداع نقاط التفتيش ورجال أمن مبنى المحافظة... وقفت بين عشرات المراجعين عند باب الاستعلامات الخلفي القريب من محطة وقود الجمهورية، في انتظار أن يأتي دوري للدخول إلى مبنى المحافظة." وقد يعزز وجود الأمريكان في بيته والتفتيش الدقيق والعبث بمحتوياته، هذا الظن. إلا أننا نكتشف أن بطل الرواية "جلال" ما هو إلا صحفي مثابر ومغامر، يتبنى فكرة الحفاظ على المظاهر الثقافية التي يحاول البعض طمسها، ويتمتع بعلاقات واسعة ومتشعبة: "الخدمة الإعلامية التي أقدمها لمجلس الحكم المحلي ثمينة. فغسل التصريحات وتنظيفها من الأخطاء السياسية التي توحي أن قائلها، بالكثير، سائق حاصدة زراعية، جعل "الغد البغدادية" تكسب أخباراً ملتهبة، ولأنني أجعل كبيرهم وصغيرهم لا يقل بشعرة عن كيسنجر، فإن إعلام المحافظة يغفر لي عشرات التقارير التي أكتبها وأتطرق إلى الفساد وسوء الإدارة والاستياء الشعبي العام."

يحاول المؤلف ترسيخ عنوان روايته في ذهن القارئ من خلال تكرار مشاهد اقتحام مجموعة الجنود الأميركان لبيته، تماماً كما يحاول استمالة القارئ إلى أن هناك الكثير من العراقيين يعملون بجد ويتحدون كل المخاطر من أجل البقاء على الطابع الثقافي للمدينة بل والعمل على تنميته رغم كل مظاهر القتل والدمار التي يشهدها الشارع العراقي، ولكن، لماذا اختير بيت "جلال" تحديداً لتواجد القوات الأمريكية داخله؟ وهل هم بالفعل يرومون تأمين سلامة الشارع من العبوات الناسفة والسيارات المفخخة؟ الحكاية تعود أصولها إلى زمن الديكتاتور، حيث "كمال" الشقيق الأكبر لجلال، هذه الشخصية التي تدخل في صلب الفكرة الروائية، وبشكل مؤثر: "في عام 1992 أصبح كمال مسؤولاً بشكل مطلق على التنقيبات السريعة التي كانت تجري على مساحة ميل مربع في موقع القصور الرئاسية على تل بالقرب من الغابات السياحية حيث يمكن مشاهدة دجلة ينحني كراقصة وسط خضرة فائضة." وحينها يعثر "كمال" على مدفن الملكة "شمشو"، يدخله، ويأمر بنقل العظام خارجاً، ثم يطرد الجميع ليبقى وحيداً داخل المدفن كونه قد وجد ما كان يحلم به، قلادة الملكة "شمشو"، يدسها في جيبه ويخرج آمراً بهدم المدفن وإزالته بشكل تام. وهنا تدخل الرواية حيزاً مهماً، حيث تتحول فكرتها من تدوين مشاهدات الموت والإذلال اليومية بفعل الاحتلال، ومكابدات الصحفيين في التحرك واصطياد المعلومات الدقيقة، إلى تجارة عصابات وسرقة آثار ومؤامرات جُيّشت لها الجيوش، ليتضح لنا أن تواجد الأميركان في بيت "جلال" لم يكن إلا للبحث عن قلادة الملكة التي يعتقد أن "كمال" قد أودعها لدى شقيقه، وهذا ما حصل بالفعل كما أخبرتنا الرواية. وأهمية هذه القلادة تعود إلى أهمية الملكة شمشو التي "يعتقد اليهود أنها ابنة سارة أخت النبي ناحوم... وإن النبي ناحوم وهبها قلادة من الذهب فيها حجر كريم يعود لخاتم النبي سليمان..."

لم يكتفِ المؤلف بهذا بل ذهب لفضح سرقات لا تقدر بثمن، من خلال صور روائية متقنة قد يجدها القارئ هامشية، أو تدور ضمن الحيّز الخارجي للرواية، إلا أنه سرعان ما يكتشف نتيجة كثافة هذه الصور وتتابعها أن سرقة آثار العراق كانت من أولويات الاحتلال، وإن الإشارة لها تدخل في صلب فكرة الرواية: "بعد أشهر من احتلال الموصل خصص الجيش الأمريكي منحة لتحديث مكتبة الأوقاف - التي تحتوي على مخطوطات بالعبرية والسريانية تخص مزار النبي ناحوم في منطقة "ألقوش" - وترميم قاعة المخطوطات، وقاموا بنقل ألف مخطوطة إلى جهة مجهولة وتعهدوا بإعادتها حال انتهاء أعمال الترميم... وبعد اكتمال العمل في المبنى أعادوا نصف المخطوطات والنصف الآخر لم يعد إلى الآن... التي لم تعد هي الأثمن، وأغلبها بالسريانية والعبرية".

تحدثنا الرواية عن بطلتها غير المباشرة "مناسك" التي ظهرت ملازمة لجلال في أغلب المشاهد، كيف لا وهي التي "تعشقه لدرجة أنها تتمنى أن يتفجَّر جسدها وجلال بقنبلة إرهابية كي يختلط لحمها بلحم حبيبها إلى الأبد؟" صورة "رومانسية" غارقة في الدم ورائحة البارود، تنبثق من داخل الخراب وزمن الموت... صورة صاغها المؤلف بتقنية عالية قد تغري القارئ ليقتنع بـ "إنسانية" الفكرة. وهنا نجد أن المؤلف قد نجح في خلق شخصية "مناسك" إلى جانب بطل روايته لتحمل عنه العديد من الأعباء والمهمات التي كانت تثقل كاهله، وهذا ما يخبرنا به "جلال" حيث عرف "مناسك" حين "عملنا معاً في مبنى واحد. أنا في التلفزيون أعد النشرات الإخبارية وهي في الإذاعة تترجم مقتطفات مما أعده لتقرأه في نشرة منتصف النهار باللغة الإنكليزية. تركنا العمل معاً هرباً من القصف اليومي الذي يتعرض له المبنى بقذائف الهاون، (...) استولت "مناسك" على كل الأعمال التي لا يستوعبها وقتي وأظهرت براعة من جعل الأمر يبدو كنشاط سكرتاري يخضع لقانون الطوارئ."... لنعرف بعد هذا أن "مناسك" كانت المخبأ الحقيقي لقلادة الملكة "شمشو" حيث كانت ترتديها تحت ثيابها على امتداد زمن الرواية التي أظهرت هماً ثقافياً عظيماً كان يحمله العديد من الشخصيات. هم ثقافي قرر الصمود بوجه كل محاولات التخريب والتهميش وطمس هوية المدينة العريقة، فمحاولة ترميم بيت أثري ليكون مركزاً ثقافياً، وتشغيل دار عرض سينمائية بعد تعطيلها، والعمل على جعل سوق الكتب رائجة رغم كل التهديدات، ما هي إلا دلائل على هذا الاهتمام، الذي أراد المؤلف ترسيخه في أذهاننا، في وقتٍ باتت الثقة معدومة بين أبناء العراق بفعل الموت والمتاجرة بالأرواح البريئة، حتى تسربت رائحة هذه الثقة الميتة إلى داخل العائلة العراقية الواحدة، إلا أن شخوص الرواية، وبقيادة المؤلف، أعلنوا عن تمسكهم بحلمهم الجميل... الحلم الذي تكتنزه الضمائر المثقفة في الاهتمام بنقاء الروح الإنسانية، وحفظ التراث وديمومة المظاهر الثقافية وحمايتها من الخراب الذي جاء به الاحتلال. وينهي نزار عبد الستار روايته:

- ها أنا ألوح بيدي حاملاً نسخة من كتاب الوثائق.. أتراني؟

- أرى..

- ماذا ترى؟

- أحلام.. أحلام.